صدرت ترجمة السيرة الذاتية للمؤرخ الماركسي الإنجليزي الشهير إريك هوبزبوم عن دار المدى. ويعتبر هوبزبوم أحد المؤرخين الماركسيين الذين سلموا من محاولة تطبيق النصوص الماركسية الأصلية على الأحداث التاريخية ولو أدى ذلك لاعتسافها والتخلي عن الموضوعية والشروط العلمية. الكثير من الكتب التاريخية التي تم تأليفها بطلب من القيادات الحزبية ذهبت الآن بعيدا عن الاهتمام لأن مهمتها التي كتبت من أجلها (الدعاية للماركسية) انتهت.
ما الذي يجعل هوبزبوم يكتب سيرته الذاتية؟ طرح هو ذاته هذا السؤال في المقدمة. فهو من جهة ليس من رجال السياسة أو الفن الذين تستأثر حياتهم عادة باهتمام الناس. كما أنه لن ينحى في سيرته هذه منحى فضائحيا بمعنى أنه لن يكشف هنا أسرارا خاصة كانت تخفى على الناس. أيضا لن تكون هذه السيرة عبارة عن اعتذار وندم على الماضي مما يجعلها مثيرة بشكل ما. إذن ما الذي يجعل هوبزبوم يكتب سيرته الذاتية؟ إنه باختصار بسبب أنه عاش عصرا يستحق أن يكتب عنه، القرن العشرين، العصر المثير الملتهب. ومن هنا فإن سيرة هوبزبوم تعتبر مدخلا مناسبا للتعرف على ما جرى في القرن العشرين. من خلال مؤرخ يقول إنه عاش حياته ماركسيا في الدول الرأسمالية دون أن يقدم تنازلات.
تتكون السيرة من ثلاثة أقسام. الأول: يغطي الفصول الشخصية/ السياسية. وهي الفترة الممتدة من الولادة في عشرينيات القرن العشرين إلى أوائل التسعينيات. الثاني يغطي مهنة هوبزبوم كمؤرخ محترف أما القسم الثالث فهو حول البلاد أو المناطق التي ارتبط بها فترة طويلة من حياته مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وبعض دول العالم الثالث. وللمعلومية هنا فإن أشهر أعمال هوبزبوم التاريخية هي سلسلة عصر الثورة وعصر رأس المال وعصر الإمبراطوريات وعصر النهايات القصوى وهي تشكّل تأريخا شموليا للعالم وأوروبيا بشكل خاص للفترة التي امتدت من الثورة الفرنسية 1789 حتى العصر الحالي. للعربية ترجم حتى الآن الجزءان الأولان من قبل المنظمة العربية للترجمة.
ما الذي يجعل من سيرة هوبزبوم تستحق القراءة؟ برأيي أنها تستحق لعدد من الاعتبارات منها أولا أنها سيرة مؤرخ ناجح وقدير يمتلك قدرة على التحليل والوصف دون الغرق في الالتزام الأيديولوجي الفجّ. ثانيا أن هوبزبوم صاحب رؤية نقدية دقيقة حتى لأداء الحزب الشيوعي البريطاني الذي كان عضوا فيه إضافة إلى نقده للآباء هناك في الاتحاد السوفييتي وهو الأمر الذي لم يكن الكثير يستطيعونه. أيضا سيرة هوبزبوم سيرة مثيرة نوعا ما فهي تتحدث عن سيرة ماركسي بريطاني ذهب للتدريس في أمريكا أكثر من مرّة. نتحدث هنا عن فترة الحرب الباردة بالذات حيث ارتفع معدل العداء للشيوعيين في الغرب، نتذكر هنا المكارثية في أمريكا وإن لم تصل الأمور في بريطانيا إلى هذه الدرجة. كما أن سيرة هوبزبوم، الذي منع من دخول أمريكا لفترة طويلة،هي إطلالة على أهم الأحداث السياسية للقرن العشرين، الحروب العالمية والحرب الباردة وحروب أمريكا الجنوبية وأزمة الصواريخ الكوبية وغيرها من الأحداث الكبيرة. كتب هوبزبوم عن هذه الأحداث في كتبه التاريخية ولكنه هنا كما تقول الفيلسوفة أغنيس هيلر "التاريخ يدور حول ما حدث منظورا إليه من خارج الذات، بينما تتناول المذكرات ما حدث منظورا له من داخل الذات".
نحن هنا أمام سيرة لرجل عاش اليتم والفقر فقد والديه مبكرا ولد في بلد غريب وعاش طفولته في ألمانيا ثم اقتلع منها في الشباب ليعود إلى موطنه الأصلي. مؤرخ تبنى الماركسية التي كانت تعبر عن أحلام وطموحات المحرومين ومن يشعرون بمرارة الظلم ولكنه عاش ليشهد خيبة أمله في المشروع الذي تبناه طول عمره، ولكن هذا لم يؤد إلى هربه من الواقع بل أدى به إلى مراجعة ذاته وأفكاره وأدواته المنهجية ليحظى بقبول عالمي به كمؤرخ محترف حتى من قبل من يختلفون معه في الرؤية والمنهج. الكتاب من ترجمة معين الإمام ويقع في 510 صفحات.