على منضدة عيسى أبو رجل وإبراهيم شقادف رأيته وقد أسدل حاجبه الأيمن على عينه بينما اقترب الأيسر من شعره الكثيف والذي يوحي منظره بأن صاحبه لا يعرف بوجود اختراع اسمه الحلاق.. يداعب أوراق الكوتشينة بأصابعه ذات الأظافر الطويلة نفسها التي تتسلل ما بين فترة وأخرى إلى أنفاق أنفه ونفسها أيضا تنتقل لتجذب كأس الشاي وقطع الساندويتشات التي تسد جوعه.. كنت أعرفه ورغم ذلك نظفت زجاج نظارتي جيدا لأتأكد أكثر.
نعم هو بملامحه فقد حفظتها منذ أول يوم جلس فيه بجانبي أيام الثانوية.. ورغم نشاطي واجتهادي إلا أن سهر الليالي عجز عن ملاحقة كشوفات درجاته.. وكأن الذكاء لا ينبع إلا من جمجمته ليفرق على أقرانه.
ترددت في الاقتراب منه بعد أن سمعت أساطير تروي جنونه أو حتى فوضويته التي تطرأ عليه حين تسأله عن حاله.. لكن شيئا من حنين الماضي دفعني لأنبش دواخله.
- علي مستور؟
بهذا السؤال بدأت رحلة استكشافي لصديق قديم طالما شاطرني مستلزماته الدراسية وتواصلت روحي بروحه.
أجابني: عجبا لم تدعني العواطلي؟
والتفت إلي وسرعان ما ارتسمت الدهشة على محياه وكأنه رأى كنزا يحتاج إليه أو أن صبحا أشرق بعد عتمة مريرة.
- أنت؟ لا أصدق عيني.
ثم احتضنني بقوة أحسست فيها باحتياجه وضعفه.. بل إن انكساره تجلى في نظراته.. مضت دقائق صمت قبل أن يسألني عن شخصي بعد فراقنا.. ثم مضينا في سرد لتقلبات حياتي بدءا من وثيقة الثانوية وانتهاء بشكران صغيرتي الرائعة..
تحمست لحماسه واستجمعت قوى جرأتي لأفاتحه بسؤالي الذي حمل قدميّ إليه..
- وأنت ماذا فعلت؟
قلتها وقد وضعت أسوأ الاحتمالات بعد سيل الأساطير التي حكيت عنه.. فأجابني بعد تنهيدة طويلة:
- كما ترى مجرد عالة على من حولي.
- ألهذا يسمونك بالـ........
- عواطلي؟!
قلت نعم وبتردد وخوف.. فجاءتني إجابته سريعة مليئة بكل قهر الحياة.
- كنت الأفضل وأردت أن أواصل.. لكن عناد الحياة وقف أمامي بأيدي صانعيها.
- من تقصد؟
- تخرجت بامتياز.. وبحثت عن فرصتي كثيرا.. كنت مهووسا بتخصصي النادر حتى بعد تخرجي، فدعمت ملفي بتجاربي وتطلعاتي..
ثم صمت فبادرته متشوقا وماذا بعد؟
- اعتبروني مجنونا ووقف من حولي ضدي على اعتبار أن آمالي تحرجهم ثم بعد قتال آثرت ما ترى.
سرد لي كل شيء مرورا بقوته اليومي كيف يكتسبه ومراحل الإدمان التي عاناها بسبب فراغه.. ورغم أن تساؤلاتي وجدت شفاء لها إلا أن دواعي الفضول لازمتني لأتقصى عن حقيقة هذيانه.. وقبل أن تنبس شفتاي جاءت الإجابة كواقع..
حيث مجموعة من الشباب لا يقلون قذارة عنه سوى أنهم يسمون قذارتهم (موضة). رفع أحدهم إحدى الصحف ونادى:
- حصلت على وظيفة يا عواطلي.
انتفض وودع عقله وانطلق يقلب بنهم بين الصفحات.. وعند آخر صفحة تضاحك الشباب.. فرجع حزينا لتجدد المقالب عليه، لكن حاله عاد غير الحال.
يشتم من أقعدوه وقتلوا طموحه.. يهدد ويتوعد.. حتى إنه لم يعد يعرفني، بل إن محاولات تهدئتي له باءت بالفشل.
وبخت الحاضرين الذين يستدعون لوثته ويستخفون بمعاناته ثم تركته وقد عادت أصابعه إلى أنفاق أنفه.