هذا السؤال لا بدّ من طرحه اليوم، في الذكرى العاشرة هذه، فقراءة الشاعر بعد غيابه تختلف عن قراءته خلال حياته، لا سيما اذا كان الشاعر في حجم نزار قباني، شعرياً وشعبياً أو جماهيرياً. وهو يكاد يكون الوحيد الذي امتلك سلطة تماثل السلطة السياسية والذي أعاد الى الشاعر حضوره الساطع بصفته صوت الناس وضميرهم الحيّ. لكنّ المفارقة تكمن في أن شعرية نزار قباني الحقيقية تجلّت خارج هذه السلطة التي كانت له أو قبل نشوئها، أي في مراحله الأولى، عندما كان ينتمي بوضوح الى المدرسة الجمالية التي عرفها عصر النهضة في مقلبه الأخير وعندما راح يحدّث معطيات هذه المدرسة مؤسساً لغته الجديدة الخاصة وقصيدته الحديثة الخاصة. سلطة نزار قباني برزت لاحقاً عندما شرع يكتب بـ «السكين» (كما يعبّر) قصائد سياسية صارخة ألهبت الجماهير وراعت همومها وماشت ذائقتها ومشاعرها الآنية. ومنذ أن بدأ شاعرنا يكتب بـ «السكين» تراجع شعر الوجدان والغزل لديه واحتل الشعر السياسي صنيعه بدءاً من هزيمة العام 1967 وانتهاء بالهزائم المتتالية التي شهدتها «الساحة» العربية، عسكرياً وسياسياً... وعرف نزار كيف يستخدم الحدث السياسي شعرياً ليرسّخ جماهيريته ولو على حساب شعّريته. إلا أنّه بالطبع لم يهجر الغزل بل أدّى أيضاً شخصية الشاعر الذي يدعو الى تحرير المرأة العربية من السلطة الذكورية والاجتماعية... لكنّه لم يستطع أن يطفئ في داخله الجذوة «الشهريارية» وذكورية الرجل الشرقي وغطرسته ونرجسيته. فها هو يعترف في احدى قصائده بأنه «فصّل من جلد النساء عباءةً وبنى «أهراماً من الحلمات». هذا البيت هو من أبشع ما كتب نزار لا شعرياً فحسب بل بما يضمر أيضاً من اعتداد فارغ بالنفس ومن كبرياء وخيلاء.
يُروى عن نزار أنّه ظلّ يكتب حتى اللحظة الأخيرة من حياته. وحين لم يكن يجد ورقاً كان يكتب على «وصفات» الطبيب أو «الروشتات» كما يقال بالعامية. أمست الكتابة في مراحله الأخيرة عادة، عادة يدمنها ادمان المدمنين على التدخين أو الشراب. وقد لا يكون مصيباً لديه وصف الكتابة بـ «السلاح» الذي يواجه به الشاعر العالم عادة. كان نزار أقوى من أن يلجأ الى الكتابة سلاحاً. سلطته تخطت قدرة الشعر على الدفاع عن نفس الشاعر. فهو كان صاحب سحر يمارسه على الجماهير، بشخصه مثلما بقصائده اللاهبة.
كتب نزار إذاً كثيراً، أكثر مما يقدر شاعر وحده على كتابته. أعماله الشعرية بلغت تسعة أجزاء ناهيك عن أعماله النثرية ومقالاته التي لا تحصى. لكنّ هذه الكثرة وإن دلّت على امتلاكه ملكة اللغة وعبقريتها لم تكن في مصلحته بل هي انعكست سلباً على شعريته، بخاصة في مراحله الأخيرة عندما راح يكرّر نفسه حتى بدا كأنه يقلّد نزار قباني. بدت لغته حينذاك مستهلكة وكذلك تراكيبه اللغوية وتفاعيله وصوره... لكنه لم يفقد جماهيريته ولا قراءه الذين ظلوا يقبلون على أعماله ويواكبون الجديد منها.
إلا أن «الصدمة» حصلت بعدما رحل نزار قباني. لم يمضِ على غيابه عامان أو ثلاثة حتى بدأ مبيع أعماله يتراجع. إسمه لم يعد يحتل قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في المعارض العربية. ولم تعد الأجيال الجديدة «تتهافت» على دواوينه. غاب الشاعر وبقي شعره، لكن الشعر غير قادر على الحلول محلّه. كان القراء المفتونون به، شباناً وشابات، ينتظرون في صفوف طويلة ليحظوا بتوقيعه. والأمسيات التي كان يحييها هنا وهناك كانت تعجّ بالجمهور الغفير الذي تضيق به الصالات فتخرج كثرة منه الى الساحات. غابت صورة الشاعر ولم يبق سوى شعره. الشعر لا يجذب في غياب صاحبه. الشعر يظل وقفاً على الكتب. إلا أن نزار قباني لا يزال الشاعر العربي المعاصر الأكثر مبيعاً على رغم تراجع أرقام مبيعه خلال الأعوام العشرة لا سيما في المعارض. هذه ميزة سيظل يحسده عليها شعراء كثر حتى بغد غيابه. ويعترف معظم أصحاب المكتبات في العالم العربي بهذه الحقيقة: بين الشعراء لا يزال نزار يحتل المرتبة الأولى شعبياً، ثم يليه محمود درويش. هذا على المستوى العربيّ لا المحليّ. بعض المدن تحب شعراءها وتقبل عليهم جاعلة منهم نجوماً. أما عربياً فهؤلاء لا يستطيعون منافسة نزار ومحمود. لكنّ محمود بدا مخالفاً لنزار في مساره: ابتدأ شعبياً وأصبح «نخبوياً»، على أن نخبويته لم تكسر رهبة الرمز الذي يمثله في وجدان الجماهير العربية.
هذا التراجع في المبيع لا يظلم نزار قباني ما دام في الطليعة، خصوصاً في مرحلة يشهد الشعر فيها انحساراً أمام صعود «الثقافة» الجديدة التي تحتل التكنولوجيا صميمها. الظلم الذي يمكن الكلام عنه هو التناسي الذي يحيط بشاعرنا أو التجاهل أو اللامبالاة في معنى ما. حتى الآن لم يُنشأ متحف باسمه هو الذي يستحق أن يكون له متحف مثله مثل الشعراء الكبار. حتى الآن لم يقم له تمثال في مدينته الأم دمشق ومدينته بالتبني بيروت. دمشق التي اختيرت عاصمة ثقافية عربية لهذه السنة بالكاد تذكرت شاعرها. صدر عنه حديثاً في دمشق كتاب رسميّ ضمّ شهادات ومقالات، لكنه لا يقارن بالكتاب الضخم ذي الجزءين الذي أصدرته عنه مؤسسة سعاد الصباح وضم أبحاثاً شاملة وشهادات كتبتها أقلام بارزة. هذا كلّ ما فعلت دمشق في احتفالها الذي صادف الذكرى العاشرة لغياب شاعر دمشق. حتى بيته الأول في أحد أحياء دمشق القديمة لم يبق ملك العائلة. البيت الذي تغنى به وبظلاله وأرجائه وياسمينه ونافورة مائه كان مهيّأ لأن يكون متحفاً له. لقد بيع هذا البيت مثلما بيع بيته في بيروت وبيته في لندن... بل مثلما بيع الكثير من أغراضه الشخصية وأشيائه. تقول الشاعرة هدى نعماني قريبته أنها استطاعت أن تبتاع بعض هذه الأغراض مثل المكتب والثريات والقنديل و «البارافان»... لقد أنقذت بعض ممتلكات شاعرنا، أما الأخرى فتبعثرت حتماً. دار نزار قباني أصبحت الآن في عهدة دار نوفل وهي دار بيروتية صغيرة لا تملك شبكة توزيع عربية مهمة. دار نزار قباني كانت سابقاً في عهدة دار الآداب بحسب ما شاء نزار صديق صاحبها الكاتب سهيل ادريس. ولعلّ انتقالها الى دار نوفل لم يتمّ عفوياً، بيعت مستودعات نزار قباني وبات أولاده الثلاثة يتقاسمون «المداخيل» مباشرة: هدباء ابنته من زوجته الأولى زهرة، وعمر وزينب من زوجته الثانية بلقيس، التي قضت في انفجار في بيروت وكتب عنها قصيدة رثائية، ذاتية وسياسية، ما زال جمهوره يرددها.
ظلم نزار قباني بعد مماته وسيظل مظلوماً ما دام بلا «متحف» أو «بيت» في دمشق أو بيروت مدينته الثانية. خلال الحرب كان نزار يتصل هاتفياً من لندن بمنزله في بيروت، متيقناً أن لا أحد سيردّ في المنزل المهجور، لكنّه كان يسرّ بسماعه الهاتف يرنّ في بيروت. كان هذا عزاء له هو الذي ظل في حال من الحنين الى مدينته.
كيف نقرأ نزار قباني اليوم، بعد عشرة أعوام على غيابه؟ هل نقرأه في مراحله الأولى التي استطاع فيها أن يكون خير وارث لمدرسة عصر النهضة «الثانية» بجماليتها ورومنطيقيتها ورمزيتها وخير ثائر على العمود الشعري وخير رائد للشعر الحر أو التفعيلي؟ أم نقرأه في مراحله السياسية الغاضبة التي مثل فيها ضمير الجماهير العربية في تمرّدها واحتجاجها؟ هل نقرأه في شعره الغزلي الجميل الذي طوّر عبره الارث النهضوي أم في حداثته الخاصة، حداثته العفوية والبعيدة عن نظريات الحداثة نفسها؟ نقرأه في شعره السياسي الرثائي الذي نعى به العالم العربي أم في شعره السياسي الذي وقع في شرك الخطابة والمباشرة؟
نزار قباني سنظل نقرأه وإن بدت قراءتنا له كأنها استعادة لماضٍ جميل محفوف بالذكريات الجميلة. هذا الشاعر الذي أنزل اللغة من عليائها وجعلها سليلة الحياة، سنظل نقرأه؟