حكااااااااااااااااااااااااااااااااام مصر

غزا مصر قديماً كثيرون ووصلوا إلى سدة الحكم فيها، كالفرس والنوبيين والليبيين واليونان والرومان. وكانت الثورات أبرز معالم هذه الفترات التاريخية. لكن ما لم تفعله الثورة فعلته الثقافة التي حولت أولئك الغزاة إلى فراعنة أو حكام مصريين.

ولعل الملاحظة المهمة التي يثيرها كتاب «الإسكندرية ملكة الحضارات» (تأليف عالم الآثار الفرنسي جان إيف أمبرور وآخرين، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة بترجمة فاطمة عبدالله محمود) أن النخبة المصرية كانت دائماً في ظل كل مَنْ يحكم، وكان تعامل هؤلاء الوافدين لا يتعدى هذه النخبة، في حين أن العامة كانوا رافضين لأي منهم.

وسجلت الآثار المتناثرة في ربوع مصر سخرية المصريين من حكامهم الأجانب، ورفضهم أن يكون فرعونهم أجنبياً، كما رفضوا الانصياع للنخبة الحاكمة باسمه، ومن ثم كان التشدد والعسف والظلم البطلمي على أشده، حتى أن بطليموس الرابع جند جيشه كله، من مرتزقة يونانيين، لقمع ثورة كادت تنهي حكم البطالمة. ولم تكن حال مصر اقتصادياً كما يصور الخيال الأدبي عن الحكم البطلمي، على رغم ما كانت عليه الإسكندرية من ازدهار ونشاط اقتصادي، وربما تعود هذه الخديعة إلى ازدهار النشاط الثقافي، سواء عبر مكتبة الإسكندرية، التي بناها بطليموس الأول على غرار مكتبة فرعونية قديمة كانت بالقرب من المكان الذي نشأت فيه الإسكندرية، أو عبر المعابد التي أقيمت على مقربة من قصر الحاكم، أو مجموعة القصور التي أقيمت على الجانب الآخر من القصر، وهي تزيد في عددها على ثلاثمئة، سكنها قادة الجند والتجار واليونانيون الذين جاؤوا مع الإسكندر.

وتعد الإسكندرية و «منف» رمزي هذا الازدهار، لأن منف كانت السلطة الدينية التي لا بد من شراء كهنتها بأي ثمن، أما الاسكندرية فكانت مقر الاولمبيات التي كانت تقام كل أربع سنوات، وكانت العاصمة التجارية التي أقيم عليها فنار فاروس، أحد أعاجيب الدنيا السبع الذي عاند أكثر من ثلاثمئة وثمانين زلزالا، وقد أقامه البطالمة على صخرة مربعة، فارتفع عن الأرض مئة وأربعين متراً على هيئة ثلاث طبقات، محتوياً ثلاثمئة غرفة كان يخزن فيها الوقود اللازم للشعلة التي يعلوها تمثال زيوس، واستمر تشييده خمس عشرة سنة، وانهار على مراحل، فحول احمد بن طولون الطبقة الثانية منه إلى مسجد كان أعظم وأعلى مسجد وقتها، وحاول صلاح الدين ترميمه، لكن مع مجيء زمن المماليك انهار تماماً، فأخذ قايتباي أحجاره لبناء حصن أو قلعة قايتباي.

ويذهب مؤلفو «الإسكندرية ملكة الحضارات» إلى أن الزخم في الآثار البطلمية جاء من كثرة المحاجر المتنوعة في الصحراء المصرية، تلك المحاجر التي ورثوها عن الفراعنة، واستخرجوها لتحيلها ورش الفنانين المهرة إلى كنوز ذهبية وفضية وأحجار ثمينة واوان زجاجية، وكان لبطليموس الرابع في قصره كهف مبطن بالذهب ومزخرف بالأحجار الثمينة، وهو أهدى أحد الملوك مائدة من ذهب وأحجار ثمينة. أما مارك انطونيو فحين ركب مركب كليوباترا المحتوي كنوزاً لا تحصى، قرر أن يستغني بالاسكندرية عن روما، وان يجعل امبراطوريته في هذه الجنة التي لا تنفد كنوزها ومواردها.

ويبدو أن الإسكندرية في ذلك الوقت كانت عامرة بكل أسباب الرقي، فالمؤرخون والرحالة تحدثوا عن القناة التي تجيئها بالماء العذب من النيل، وبحيرة مريوط التي تموج بالماء العذب، وشوارعها المهندسة المتقاطعة الفسيحة، وكان القصر الذي بناه الاسكندر اكبر القصور، وفيه أقيم السيرابيوم (مجمع المعابد) وبالقرب منه الموسيون (مركز الثقافة والأدب)، واحتوى مكتبة الإسكندرية التي أنشأها بطليموس الأول، وأخذ خلفاؤه والكهنة في تزويدها بالمخطوطات، حتى ان انطونيو جاءها من مكتبة في روما بمئتي ألف مخطوط. أما الاحتفالات فكانت في الشوارع على غرار احتفالات أثينا، وكانت من كثرتها لا تنتهي، وليس هناك في هذا الصدد أفضل من التعبير الذي قاله مؤلفو الكتاب وهو أن الاسكندرية كانت مدينة استعراض.

ورصد مؤلفو الكتاب ما يمكن أن نسميه قصة مدينة تحت سطح الأرض، فلم يتوقفوا عن رصد التاريخ والنشأة وعوامل الازدهار والنمو، بل جسدوا - بالخرائط وما تواتر عن المؤرخين والباحثين القدامى، وما توصل إليه علماء الآثار في العصر الحديث - شكل المدينة وما كانت عليه وكيفية الحياة فيها، وما توصل إليه البحث الأثري من طرق ومنشآت وقنوات وشبكات مياه.

جاء ذلك في ستة فصول تناولت نهاية الدولة الفرعونية ودخول الاسكندر مصر وتخطيطه مدينته بنفسه، ثم العصر البطلمي وما كان به من صراع بدأ مع موت الاسكندر وصراع قادته للوصاية على ابنه وعرش مقدونيا، من ثم فقد اختار الأذكى والأقل رجالاً بينهم - بطليموس الأول - الأسكندرية لتكون عاصمة ملكه بعيداً من الصراع اليوناني على مقدونيا، فتخلص من نائب الإسكندر على مصر واعتمد على طبقة الكهنة بالترغيب والترهيب في بناء حضارة البطالمة، ورغبة في التماثل مع الفكر المصري القديم فقد تزوجوا على غرار إيزيس وأوزوريس وتلقبوا بالفراعنة ودمجوا الآلهة المصرية في اليونانية. لكن ذلك كله لم يلق إعجاب المصريين فانحسر تعامل البطالمة مع الطبقة العليا من التجار والكهنة وقمعوا الثورات بأعنف ما يكون.

لكن الصراع مع الإمبراطورية الرومانية الفتية أدى في النهاية إلى أن تكون العاصمة الشهيرة في العالم القديم تابعة لروما، وأن تكون صناعة القرار السياسي المصري للمرة الأولى في التاريخ من خارجها. ورغم أن الرومان رحلوا بمجيء الفتح العربي، ظلت الإسكندرية حتى مجيء بونابرت العاصمة الحضارية والاقتصادية لمصر، لكن كل هذه العقود الطويلة جعلت الإسكندرية البطلمية والرومانية شبه مختفية تحت سطح البحر وطبقات الطمي، فأخذت البعثات الأوروبية والجهود المصرية تقوم بدورها للكشف عن مدينة الفنار والسيرابيوم والمكتبة الشهيرة. وجاء جان إيف إمبرورو ورفاقه ليجمعوا ما انتهت إليه كل هذه الجهود في كتابهم الذي قدم لطبعته العربية وزير الثقافة المصري فاروق حسني.